فصل: (سورة المنافقون: آية 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة المنافقون: آية 4]

{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجْسامُهُمْ وإِنْ يقولوا تسْمعْ لِقولهِمْ كأنّهُمْ خُشُبٌ مُسنّدةٌ يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ هُمُ الْعدُوُّ فاحْذرْهُمْ قاتلهُمُ اللّهُ أنّى يُؤْفكُون (4)}.
كان عبد اللّه بن أبىّ رجلا جسيما صبيحا، فصيحا، ذلق اللسان وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم. فإن قلت: ما معنى قوله: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُسنّدةٌ}؟
قلت: شبهوا في استنادهم- وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير- بالخشب المسندة إلى الحائط ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع. ويجوز أن يراد بالخشب المسندة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان، شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، والخطاب في {رأيْتهُمْ تُعْجِبُك} لرسول اللّه، أو لكل من يخاطب. وقرئ: {يسمع}، على البناء للمفعول، وموضع {كأنّهُمْ خُشُبٌ} رفع على: هم كأنهم خشب. أو هو كلام مستأنف لا محل له. وقرئ: {خشب} جمع خشبة، كبدنة وبدن. وخشب، كثمرة وثمر. وخشب، كمدرة ومدر، وهي في قراءة ابن عباس. وعن اليزيدي أنه قال في {خُشُبٌ}: جمع خشباء، والخشباء: الخشبة التي دعر جوفها: شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم {عليْهِمْ} ثانى مفعولي {يحسبون}، أي: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب: إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة: ظنوه إيقاعا بهم. وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل اللّه فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ومنه أخذ الأخطل:
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ** خيلا تكرّ عليهم ورجالا

يوقف على {عليْهِمْ} ويبتدأ {هُمُ الْعدُوُّ} أي الكاملون في العداوة: لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجى، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوىّ {فاحْذرْهُمْ} ولا تغترر بظاهرهم.
ويجوز أن يكون {هُمُ الْعدُوُّ} المفعول الثاني، كما لو طرحت الضمير. فإن قلت: فحقه أن يقال: هي العدوّ. قلت: منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في هذا ربِّي وأن يقدر مضاف محذوف على: يحسبون كل أهل صيحة {قاتلهُمُ اللّهُ} دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك {أنّى يُؤْفكُون} كيف يعدلون عن الحق تعجبا من جهلهم وضلالتهم.

.[سورة المنافقون: الآيات 5- 6]

{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ لوّوْا رُؤُسهُمْ ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُمْ مُسْتكْبِرُون (5) سواءٌ عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ لنْ يغْفِر اللّهُ لهُمْ إِنّ اللّه لا يهْدِي الْقوْم الْفاسِقِين (6)}.
{لوّوْا رُؤُسهُمْ} عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا. وقرئ بالتخفيف والتشديد للتكثير.

.[سورة المنافقون: الآيات 7- 8]

{هُمُ الّذِين يقولون لا تُنْفِقُوا على منْ عِنْد رسُولِ اللّهِ حتّى ينْفضُّوا ولِلّهِ خزائِنُ السّماواتِ والْأرْضِ ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يفْقهُون (7) يقولون لئِنْ رجعْنا إِلى الْمدِينةِ ليُخْرِجنّ الْأعزُّ مِنْها الْأذلّ ولِلّهِ الْعِزّةُ ولِرسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يعْلمُون (8)}.
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين لقى بنى المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم: ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد اللّه بن أبىّ، واقتتلا، فصرخ جهجاه: يا للمهاجرين: وسنان: يا للأنصار، فأعان جهجاها جعال من فُقراء المهاجرين ولطم سنانا، فقال عبد اللّه لجعال. وأنت هناك، وقال: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم، واللّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال: سمن كلبك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، عنى بالأعز: نفسه، وبالأذل: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين، فقال عبد اللّه: اسكت فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول اللّه فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول اللّه، فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب. قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجرى، فأمر به أنصاريا فقال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه، وقال عليه الصلاة والسلام لعبد اللّه: أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال: واللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، وهو قوله تعالى: {اتّخذُوا أيْمانهُمْ جُنّة} فقال الحاضرون: يا رسول اللّه: شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم. وروى أن رسول اللّه قال له: «لعلك غضبت عليه»، قال: لا، قال: «فلعله أخطأ سمعك»، قال: لا، قال: «فلعله شبه عليك»، قال: لا. فلما نزلت: لحق رسول اللّه زيدا من خلفه فعرك أذنه وقال: «وفت أذنك يا غلام، إنّ اللّه قد صدقك وكذب المنافقين». ولما أراد عبد اللّه أن يدخل المدينة: اعترضه ابنه حباب، وهو عبد اللّه بن عبد اللّه غير رسول اللّه اسمه، وقال: إنّ حبابا اسم شيطان. وكان مخلصا وقال: وراءك، واللّه، لا تدخلها حتى تقول رسول اللّه الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيسا في يده حتى أمره رسول اللّه بتخليته. وروى أنه قال له: لئن لم تقرّ للّه ورسوله بالعز لأضر بن عنقك، فقال: ويحك، أفاعل أنت؟ قال: نعم. فلما رأى منه الجدّ قال: أشهد أنّ العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول اللّه لابنه: «جزاك اللّه عن رسوله وعن المؤمنين خيرا»، فلما بان كذب عبد اللّه قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أو من فآمنت، وأمرتموني أن أزكى مالى فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فنزلت {وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ} ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات {سواءٌ عليْهِمْ} الاستغفار وعدمه، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم. أو لأن اللّه لا يغفر لهم.
وقرئ: {استغفرت}، على حذف حرف الاستفهام لأنّ {أم} المعادلة تدل عليه. وقرأ أبو جعفر: {آستغفرت}، إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان، لا قلبا لهمزة الوصل ألفا، كما في: {آلسحر}، و{آللّه} {ينْفضُّوا} يتفرقوا. وقرئ: {ينفضوا}، من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم. وحقيقته: حان لهم أن ينفضوا مزاودهم {ولِلّهِ خزائِنُ السّماواتِ والْأرْضِ} وبيده الأرزاق والقسم، وفهو رازقهم منها، وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم، ولكن عبد اللّه وأضرابه جاهلون {لا يفْقهُون} ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان. وقرئ: {ليخرجنّ الأعز منها الأذل} بفتح الياء. و{ليخرجنّ}، على البناء للمفعول. قرأ الحسن وابن أبى عبلة: {لنخرجنّ}، بالنون ونصب {الأعز} و{الأذل}. ومعناه: خروج الأذل. أو إخراج الأذل. أو مثل الأذل {ولِلّهِ الْعِزّةُ} الغلبة والقوّة، ولمن أعزه اللّه وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات- وكانت في هيئة رثة- ألست على الإسلام؟ وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه. وعن الحسن بن على رضى اللّه عنهما: أنّ رجلا قال له. إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها، قال: «ليس بتيه، ولكنه عزة»، وتلا هذه الآية.

.[سورة المنافقون: آية 9]

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عنْ ذِكْرِ اللّهِ ومنْ يفْعلْ ذلِك فأُولئِك هُمُ الْخاسِرُون (9)}.
{لا تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم أمْوالُكُمْ والتصرف فيها: والسعى في تدبير أمرها: والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال، وابتغاء النتاج والتلذذ بها، والاستمتاع بمنافعها ولا أوْلادُكُمْ وسروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنهم، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند اللّه {عنْ ذِكْرِ اللّهِ} وإيثاره عليها {ومنْ يفْعلْ ذلِك} يريد الشغل بالدنيا عن الدين {فأُولئِك هُمُ الْخاسِرُون} في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وقيل: ذكر اللّه الصلوات الخمس. وعن الحسن: جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة اللّه. وقيل: القرآن. وعن الكلبي: الجهاد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

.[سورة المنافقون: الآيات 10- 11]

{وأنْفِقُوا مِنْ ما رزقْناكُمْ مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمُ الْموْتُ فيقول ربِّ لوْلا أخّرْتنِي إِلى أجلٍ قرِيبٍ فأصّدّق وأكُنْ مِن الصّالِحِين (10) ولنْ يُؤخِّر اللّهُ نفْسا إِذا جاء أجلُها واللّهُ خبِيرٌ بِما تعْملُون (11)}.
من في مِمّا رزقْناكُمْ للتبعيض، والمراد: الإنفاق الواجب {مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمُ الْموْتُ} من قبل أن يرى دلائل الموت، ويعاين ما بيأس معه من الإمهال، ويضيق به الخناق، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول، فيتحسر على المنع، ويعضّ أنا مله على فقد ما كان متمكنا منه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة، ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكى، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في ما نعى الزكاة، وواللّه لو رأى خيرا لما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقى اللّه، يسأل المؤمنون الكرة؟ قال: نعم، أنا أقرأ عليكم به قرآنا، يعنى: أنها نزلت في المؤمنين وهم المخاطبون بها، وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة. وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة {لوْلا أخّرْتنِي}. وقرئ: {أخرتن}، يريد: هلا أخرت موتى إِلى أجلٍ قرِيبٍ إلى زمان قليل {فأصّدّق} وقرأ أبىّ: {فأتصدق} على الأصل. وقرئ: {وأكن}، عطفا على محل {فأصّدّق} كأنه قيل. إن أخرتنى أصدّق وأكن ومن قرأ: {وأكون} على النصب، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير: {وأكون}، على: وأنا أكون عدة منه بالصلاح {ولنْ يُؤخِّر اللّهُ} نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة. والمعنى: إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه. وأنه هاجم لا محالة، وأنّ اللّه عليم بأعمالكم فجازعليها، من منع واجب وغيره: لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء اللّه. وقرئ: {تعملون}، بالتاء والياء. عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله}
سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه.
{قالوا نشهد إنك لرسول الله} يعني نحلف، فعبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب، ومنه قول قيس بن ذريح:
وأشهد عند الله أني أحبها ** فهذا لها عندي فما عندها ليا

ويحتمل ثانيا: أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه.
وسبب نزول هذه الأية ما روى أسباط عن السدي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس، وكان ابن أبي يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاما، فاستقى أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار، فجاء رجل من أصحاب ابن ابي بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه الاعرابي، فأتى الرجل إلى عبد الله بن أبي ودمه يسيل على وجهه، فحزنه، فنافق عبد الله وقال: ما لهم رد الله أمرهم إلى تبال، وقال لأصحابه: لا تأتوا محمدا بالطعام حتى يتفرق عنه الأعراب، فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثا، فأخبر عمه، فأتى عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه، فبعث إلى ابن أبيّ وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف: والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئا، فصدقه فأنزل الله هذه الآية.
{والله يعلم إنك لرسوله} أي إن نافق من نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك.
ثم قال: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} يحتمل وجهين:
أحدهما: والله يقسم إن المنافقين لكاذبون في أيمانهم.
الثاني: معناه والله يعلم أن المنافقين لكاذبون فيها.
{اتخذوا أيمانهم جنة} والجنة: الغطاء المانع من الأذى، ومنه قول الأعشى ميمون.
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ** من المال سار الذم كل مسير

وفيه وجهان:
أحدهما: من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم وأموالهم، قاله قتادة.
الثاني: من الموت ألاّ يُصلّى عليهم، فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم، وهذا معنى قول السدي.
ويحتمل ثالثا: جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق.
{فصدوا عن سبيل الله} فيه وجهان:
أحدهما: عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه.
الثاني: عن الجهاد بتثبيطهم المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم، قال عمر بن الخطاب: ما أخاف عليكم رجلين: مؤمنا قد استبان إيمانه وكافر قد استبان كفره، ولكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره.
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم.
{وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم.
ويحتمل ثانيا: لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم.
{كأنهم خشب مسندة} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه شبههم بالنخل القيام لحسن منظرهم.
الثاني: شبههم بالخشب النخرة لسوء مخبرهم.
الثالث: أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه، كما لا تسمعه الخشب المسندة، قاله الكلبي، وقوله: {مسندة} لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم.
{يحسبون كل صيحة عليهم} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم لِوجلهم وخبثهم يحسبون كل صيحة يسمعونها- حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته- أن العدو قد اصطلم وأن القتل قد حلّ بهم، قاله السدي.
الثاني: {يحسبون كل صيحة عليهم} كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده، وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال: {هم العدو فاحذرهم} وهذا معنى قول الضحاك.
الثالث: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبدا وجلون ثم وصفهم الله بأن قال: {هم العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.
وفي قوله: {فاحذرهم} وجهان:
أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم.
الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.
{قاتلهم الله} فيه وجهان:
أحدهما: معناه لعنهم الله، قاله ابن عباس وأبو مالك.
والثاني: أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند، حكاه ابن عيسى.
وفي قوله: {أني يؤفكون} أربعة أوجه:
أحدها: معناه يكذبون، قاله ابن عباس.
الثاني: معناه يعدلون عن الحق، قاله قتادة.
الثالث: معناه يصرفون عن الرشد، قاله الحسن.
الرابع: معناه كيف يضل عقولهم عن هذا، قاله السدي.
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية.
روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبيّ قال: لئن رجعنا إلى المدينة لِيُخرجنّ الأعزُّ منها الأذلّ، فارتحل قبل أن ينزل آخرُ الناس، وقيل لعبد الله بن أُبيّ: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك، فلوى رأسه، وهذا معنى قوله: {لوّوْا رؤوسهم} إشارة إليه وإلى أصحابه، أي حركوها، وأعرضوا يمنة ويسرة إلى غير جهة المخاطب ينظرون شزرا.
ويحتمل قولا ثانيا: أن معنى قوله: {يستغفر لكم رسول الله} يستتيبكم من النفاق لأن التوبة استغفار.
وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان:
أحدهما: أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعا من فعل ما دعي إليه من إتيان الرسول للاستغار له، قاله قتادة.
الثاني: أنه لوى رأسه بمعنى ماذا قلت، قاله مجاهد.
{ورأيْتهُمْ يصُدُّون} فيه وجهان:
أحدهما: يمتنعون، قال الشاعر:
صددْتِ الكاس عنا أُمّ عمرو ** وكان الكأسُ مجراها اليمينا

الثاني: يعرضون، قال الأعشى:
صدّق هُريْرةُ عنّا ما تُكلِّمنا ** جهْلا بأُمّ خُليْدٍ حبل من تصل

وفيما يصدون عنه وجهان:
أحدهما: عما دُعوا إليه من استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثاني: عن الإخلاص للإيمان.
{وهُم مُّسْتكْبِرُون} فيه وجهان:
أحدهما: متكبرون.
الثاني: ممتنعون.
{هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على منْ عِند رسولِ الله} الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع، فتنازع عليه جهجاه، وكان مسلما وهو رجل من غفار، ورجل يقال له سنان، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي، فلطمه جهجاه، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال: يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أوطأنا هذا الرجل ديارنا وقاسمْناهم أموالنا ولولانا لانفضوا عنه، ما لهم، رد الله أمرهم إلى جهجاه، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاما، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له قومه، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها.
{ولله خزائن السموات والأرض} فيه وجهان:
أحدهما: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرضين: النبات.
الثاني: خزائن السموات: ما قضاه، وخزائن الأرضين: ما أعطاه.
وفيه لأصحاب الخواطر.
الثالث: أن خزائن السموات: الغيوب، وخزائن الأرض القلوب.
{يا أيُّها الّذين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عن ذِكْرِ اللّهِ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه عنى بذكر الله الصلاة المكتوبة، قاله عطاء.
الثاني: أنه أراد فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها، قاله الضحاك.
الثالث: أنه طاعة اللّه في الجهاد، قاله الكلبي.
الرابع: أنه أراد الخوف من اللّه عند ذكره.
{وأنفِقُوا مما رزقْناكُم} فيه وجهان:
أحدهما: أنها الزكاة المفروضة من المال، قاله الضحاك.
الثاني: أنها صدقة التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر.
{ولن يُؤخِّر اللّهُ نفْسا إذا جاء أجلُها} يحتمل وجهين:
أحدهما: لن يؤخرها عن الموت بعد انقضاء الأجل، وهو أظهرهما.
الثاني: لن يؤخرها بعد الموت وإنما يعجل لها في القبر. اهـ.